جرّب، عزيزى القارئ، أن تدخل إلى حجرتك وتجلس على المكتب وتغلق باب الغرفة جيداً ثم تغمس قلمك فى الحبر السرى الذى سيختفى بعد دقائق من الكتابة، وتبدأ فى كتابة سيرتك الذاتية بكل صدق ثم تمزق الأوراق وتحرقها وتلقى برمادها فى أبعد سلة مهملات عن منطقة سكنك، أراهنك وأنا واثق من أننى سأكسب الرهان، سيادتك لن تكتب الصدق ولن تكتب خطاياك ولن تعترف بتفاصيل نزواتك، ستكون على الورق شخصاً آخر ليس نفس الشخص الجالس على المكتب، سيكون ما على الورق الذى تم حرقه بعد تمزيقه مختلفاً تماماً عن حقيقتك، بالرغم من أنك وحيد لا أحد يراقبك أو يراك، بالرغم من أنك قد تخلصت من كل آثار وشواهد جريمة الاعتراف، إلا أنك ما زلت مصراً على أن تزيف نفسك وتجمل قصة حياتك بمكياج الأكاذيب. أيقظنا «أدونيس» من سباتنا العميق وغفوتنا الثقيلة حين قال فى ندوته بمعرض الكتاب: «ليس لدينا حتى الآن أدب الاعترافات، فالشخص العربى دائماً يشاهد نفسه يولد ويكبر ويموت إنساناً معصوماً من الخطأ»، استيقظنا على أننا لسنا الوحيدين فى الساحة الذين نكذب فى اعترافاتنا بل الأدباء أيضاً، وهم قدوتنا الإبداعية والفنية، يفعلون مثلما نفعل من تزييف وإخفاء ومكياج، كل اعترافاتهم من قبيل: كنا الأذكى والأوائل على فصولنا، ناضلنا ولم تهمنا الفلوس، لم نقترب من امرأة قبل الزواج، وظللنا محافظين على عذريتنا لكى نتفرغ للإبداع... إلخ، نحس عندما نقرأ السير الذاتية للأدباء العرب أننا أمام روبوتات بشرية لا بنى آدمين من لحم ودم وأعصاب، المسكوت عنه فى معظم السير الذاتية العربية أضعاف أضعاف المكتوب، شعار كتّاب السيرة الذاتية هو نفس شعار شهرزاد الخائفة من مسرور سياف المجتمع الشهريارى المتربص، شعار «أدركها الصباح فسكتت عن الكلام المباح»!! الأديب والفنان أدركه المجتمع بسوطه القاسى وصوته القامع وتجريسه المنتظر فسكت عن المباح واللامباح! تاريخ السير الذاتية العربية لا يقارن على الإطلاق بما كتبه جان جاك روسو أو أوسكار وايلد أو أندريه جيد أو جان جينيه أو يوكيو ميشيما، ، لكن هناك بعض التقلصات أو تشنجات ما قبل المخاض الحقيقى نجدها على سبيل المثال فى «خبز» محمد شكرى أو «أوراق عمر» لويس عوض أو «أصابع» سهيل إدريس المحترقة أو تفاصيل حياة نوال السعداوى، وبالطبع كل هؤلاء تعرضوا للتجريس والشتيمة وأحياناً المصادرة نتيجة بعض الصدق المتناثر فى ثنايا سيرتهم الذاتية، نجد على الشاطئ الآخر المطمئن القانع بالسير الذاتية الدايت المخففة المجمّلة بمساحيق التجميل. الكثير والكثير بل أكثر من 99% من السير الذاتية العربية مكتوبة بنفس الطريقة الصحية المضمونة الخالية من نكهة الضعف الإنسانى والبشرى الطبيعى والعادى جداً، كلهم سوبرمانات على الورق، متناسين أن سوبرمان لا يوجد إلا فى خيال صانعه فقط، بداية من «المنقذ من الضلال» للغزالى و«الساق على الساق فيما هو الفارياق» لأحمد فارس الشدياق وحتى «الوسية» لخليل حسن خليل مروراً بـ«اعترافات» عبدالرحمن شكرى و«أيام» طه حسين و«حياتى» لأحمد أمين و«قصة حياة» للمازنى و«قصة حياتى» للطفى السيد و«حياة قلم» و«أنا» للعقاد و«سجن العمر» لتوفيق الحكيم... إلخ. المجتمع ما زال يجرس الفنان والأديب فيضطره للكتابة بنصف لسان، المجتمع المنافق بطبعه يجبر الأديب على النفاق ومغازلة المجموع وطأطأة الرأس للشارع وركوب موجة السائد ووضع إبداعه فى القالب لكى يناسب مقاس قدم المجتمع، فيفقد بوصلته الإبداعية ويضيّع على نفسه وعلى مجتمعه لحظة صدق حقيقية كاشفة تبصر القارئ والمتلقى وتعرى أمامه الحقيقة التى لا تخاف من نورها إلا المجتمعات المرتعشة.